صلاح الدينإذا تصفحنا كتب التاريخ التي سطرت سيرة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، نجد أنها مليئة بالمعارك الجهادية والأعمال الحربية التي قادها صلاح الدين.
وقد كتب كثير من المؤرخين عن حياة صلاح الدين؛ فمنهم من يرى أن تكريمه للعلماء هو السبب الرئيس لتحقيق نصر الله في الأرض، ومنهم من يرى أن جهاد العدو الخارجي هو العامل الأساسي، وفريق ثالث يرى أن نصر منهج أهل السنة والجماعة هو الداعم الأول لذلك.
ولكن إذا بحثنا عن المحرك الأساسي لتحقيق النصر، نلاحظ أن تعلُّق القلب بالله في السراء والضراء، ودوام الاتصال بالله في المنشط والمكره هو المحرك الأساسي والدافع الرئيس.
بعبارة أخرى:
إن تحقيق التوحيد الذي جاء به الأنبياء من عند الله هو الروح المعنوية العالية التي اتصف بها صلاح الدين الأيوبي في ذلك الزمان؛ مما كان لها الأثر البالغ في تحقيق النصر.
وفي هذه المقالة قراءة متأنية للرسائل التي كتبها صلاح الدين من خلال كاتب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني -رحمه الله-، وأرسلها إلى الخليفة العباسي في بغداد، واستنباط المقاصد الإيمانية التي حققها صلاح الدين في قلبه، فحقق الله له النصر على أرض الواقع.
ومن أهم تلك المقاصد الإيمانية:
1- تحقيق التوحيد (جهاد العدو الداخلي المتمثل في الشرك).
2- إبطال المكوس وربط السبب بالله.
3- الاجتماع ونبذ الفرقة لنيل رضاء الله.
وقد جاءت تلك المقاصد مجتمعة في إحدى رسائل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي: "وهذه المقاصد الثلاثة: الجهاد في سبيل الله، والكف عن مظالم عباد الله، والطاعة لخليفة الله هي مراد الخادم من البلاد إذا فتحها، ومغنمه من الدنيا إذا منحها، والله العالم أنه لا يقاتل لعيش ألين من عيش، ولا لغضب يملأ العنان من نزق وطيش".
تحقيق التوحيد وهدم معاقل الشرك:
مع نهاية القرون الثلاثة المفضلة بدأت تظهر الأضرحة والقباب في العالم الإسلامي على يد المجوس الذين تستروا بالدخول في الإسلام، وأبطنوا الكفر.
وقد ظهر البويهيون في العراق، والعبيديون (الفاطميون) في مصر، والحشاشون في الشام، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (27)، أن العبيديين أقاموا مشهدًا في القاهرة ونسبوه إلى رأس الحسين في سنة بضع وأربعين وخمس مائة.
وكان المشهد قبل ذلك في عسقلان بفلسطين، وأنه أُحدث بعسقلان بعد التسعين والأربع مائة، فأصل المشهد القاهري هو ذلك المشهد بعسقلان، وذلك المشهد العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربع مائة وثلاثين سنة، فقد قال شيخ الإسلام:
"ولم يكن على عهد الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم من ذلك شيءٌ في بلاد الإسلام، لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشَّام ولا العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهدٌ، لا على قبر نبيٍّ ولا صاحبٍ ولا أحدٍ من أهل البيت ولا صالحٍ أصلاً؛ بل عامَّة هذه المشاهد محدثةٌ بعد ذلك.
وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العبَّاس وتفرَّقت الأمَّة وكثر فيهم الزَّنادقة الملبِّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثَّالثة. فإنَّه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب، ثمَّ جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر".
ومن الجهود العظيمة التي أقامها صلاح الدين في مصر -وكانت من العوامل الرئيسة لتحقيق نصر الله- أن أزال هذه الأضرحة التي كانت تُعبد من دون الله في زمن العبيديين (الفاطميين)، وأقام التوحيد الخالص لله تعالى.
كما جاء في رسالته إلى الخليفة العباسي في عام (570هـ): "وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تُعبد من دون الله، وتُعظم وتُفخم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لم غره تقلب الذين كفروا في البلاد.
فسمت هِمتنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها.. وكان في تقدير الله تعال أن نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن.. ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله".
ثم ذكر صلاح الدين ما منَّ الله به من النصر، وانتزاع بلاد مصر من العبيديين ومن ساعدهم من الفرنجة، وردَّ الأمور كلها لله تعالى ولم ينسبها إلى نفسه، فقال: "ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضدين المنافق والكافر.
حتى أتى الله بأمره وأيدنا بنصره.. ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلاً للجهاد.. فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد.. ونحن -بحمد الله- قد تملكنا مما يجاورنا منه بلادًا تزيد مسافتها على شهر.. وقد صدرت عنا -بحمد الله- تقاليدها.. وكانت الحجة لله قائمة.. وكل ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا".
وعندما توفي نور الدين محمود زنكي رحمه الله، وتولى ابنه الملك الصالح إسماعيل الحكم وهو ابن أحد عشر عامًا، كادت بلاد الشام أن تتمزق، وقد تمكن الوزراء من الروافض من التلاعب بالدولة، قال المؤرخ أبو شامة المقدسي -رحمه الله- في كتاب الروضتين: "وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أن يعيد إليهم شرقية الجامع، يصلون فيها على قاعدتهم القديمة.
وأن يجهر بـ(حي على خير العمل)، والأذان والتذكير في الأسواق وقدام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني، وأن تكون العصبية مرتفعة، والناموس وازع لمن أراد الفتنة، وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين -رحمه الله تعالى- فأجيبوا إلى ذلك".
لهذه الأسباب قرر صلاح الدين أن يسير إليهم، ويُنقذ بلاد الشام، ويضمها إلى حكمه الذي يتبع للدولة العباسية، ومما كتبه في رسالته إلى الخليفة العباسي: "وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلة، وأمور مختلة، وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فإنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء في خدمته، وهم عاملون بظلمه".
وفي عام (574هـ) كان العام مجدبًا، وحذر بعض الناس من قتال العدو، فقيل له: ليست هذه سنة جهاد، فإن استمنحوك السلامة فامنح، وإن جنحوا للسلم فاجنح. فقال صلاح الدين بلغة الواثق بالله: "إن الله أمر بالجهاد وتكفّل بالرزق، فأمره واجب الامتثال، ووعده ضامن الصدق، فنأتي بما كلفنا؛ لنفوز بما كفله، ومن أغفل أمره أغفله".
وفي إحدى رسائل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي برزت حقيقة التوحيد الخالص، وردَّ الأمور إلى الله تعالى: "فالحمد لله الذي تتم النعمة بحمده، وينجح الأمل بقصده.. وقد أنعم الله علينا بنعم لا نحصيها تعدادًا، ولا نستقصيها اعتدادًا، ولا نستوعبها، ولو كان النهار طرسًا والبحر مدادًا.. وسيوفنا قد صارت مفاتح الأمصار، تفتحها بنصر الله لا بحدها ولا بقطعها".
إبطال المكوس وربط السبب بالله:
ومن الأعمال الحميدة التي قام بها صلاح الدين، وكانت سببًا في تحقيق نصر الله في الأرض، أن أبطل المكوس عن الرعية في مصر والشام وسائر الأمصار في وقت كان في حاجة ماسة إلى المال؛ ليتقوى به على أعباء الدولة، ثم علَّل السبب في ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولم يكن لأمرٍ من أمور الدنيا.
ومما جاء في إحدى رسائله إلى الخليفة العباسي: "ولما تقلدنا أمور الرعية، رأينا المكوس الديوانية بمصر والقاهرة أولى ما نقلناها من أن تكون لنا في الدنيا إلى أن تكون لنا في الآخرة.. وأن نتجرد منها؛ لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهر منها مكاسبنا.
ونصون عنها مطالبنا.. فاستخرنا الله، وعجلنا إليه؛ ليرضى.. فمن قرأه، أو قرئ عليه من كافة ولاة الأمر من صاحب سيف، وقلم، ومشارف، أو ناظر، فليمثل ما مثل من الأمر، وليمضه على ممر الدهر، مرضيًا لربه، ممضيًا لما أُمر به".
وعندما مكّنه الله تعالى من بلاد الشام، وكان الأمراء من قبل قد استغلوا ضعف ولد نور الدين، ووضعوا المكوس على الناس، عندئذ قرر -رحمه الله- أن يُبطلها، فجاء في كتاب أبي شامة المقدسي: "وأبطل ما كان الولاة استجدّوه بعد موت نور الدين من القبائح والمنكرات والمؤن والضرائب المحرمات".
وجاء في إحدى رسائل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي: "وإزالة المكوس، وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت، واليد المتعدية قد امتدت إلى أحوالهم وأجحفت".
ثم علل السبب في ذلك بأن في هذا تحقيق التوحيد المتمثل في امتثال شرع الله، فقال: "فشرعنا في امتثال أمر الشرع برفعها، وإعفاء الأمة منها بوضعها".
ولما سار إلى مدينة حلب وضمَّها إلى حكمه، قرر إبطال المكوس، ورجا أن يكون العوض من عند الله، كما جاء في إحدى رسائله: "وانتهى إلينا أن بمدينة حلب رسومًا، استمرت الأيدي على تناولها والألسنة على تداولها..
وقد رأينا بنعمة الله علينا، أن نبطلها ونضعها ونعطلها وندعها ونضرب عنها في أيامنا، ونضرب عليها بأقلامنا، ونسلك ما هو أهدى سبلاً ونقول ما هو أقوم قيلاً، ونكره ما كرهه الله، ونحظر ما حظره الله، ونتاجره -سبحانه- فإنه من ترك لله شيئًا، عوضه الله أمثاله، وأربح متجره في الرعية.. فإن الله يغني عنه بقليل الحلال".
وفي كتاب له إلى أهل الرقة، قرر إبطال المكوس، كما جاء فيه: "ومن ترك شيئًا عوَّضه الله، ومن أقرض الله قرضًا حسنًا وفَّاه ما أقرضه".
وفي رسالة أخرى، قال عن نفسه: "وأنه لا يؤثر إلا أن تكون كلمة الله هي العليا لا غير، وثغور المسلمين لها الرعايا ولا ضير".
وفي كتاب آخر، أمر صلاح الدين برفع المكوس عن الحجاج، جاء فيه: "ومن البشائر التي لا عهد لحاج ديار مصر بمثلها.. انقطاع المكّاسين عن جدة وعن بقية السواحل، ويكفي أن تمام هذه المثوبة موجب الاستطاعة، مقيم لحجة الله في الحج".
الاجتماع ونبذ الفرقة لنيل رضاء الله:
من الثوابت الأساسية في الدين، أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنال النصر إلا إذا كانت مجتمعة على الهدى. وقد كانت هذه الحقيقة ماثلة في ذهن صلاح الدين، ولم تغب عنه حتى بعد أن مكّنه الله من بلدان مصر والشام، ولم يسع للانفصال عن الدولة العباسية في العراق مع ما لديه من السلاح والرجال.
وقد جاءت كتب التاريخ موضحة الافتراق الذي أصاب الأمة قبل تولي صلاح الدين، ومنها ما جاء في إحدى رسائله عن حال بلاد مصر: "وأن كلمة السُّنَّة بها -وإن كانت مجموعة- فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة -وإن كان مسماة- فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى فيه بفراق الإسلام".
وكانت بلاد الشام قد اختلف أمرها بعد وفاة نور الدين -رحمه الله- وتمكن المنافقون من السيطرة عليها، فذكر صلاح الدين في كتابه إلى الخليفة العباسي تلك الأحوال: "وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة، وفورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين".
وعندما تولى صلاح الدين الوزارة في عهد العبيديين (الفاطميين) بمصر، وبعد وفاة العاضد آخر ملوكهم، قرر في عام (567هـ) قطع الخطبة للعاضد، وأقام الخطبة لبني العباس، ففي رسائله إلى الخليفة العباسي، جاء فيها:
"والمراد الآن هو كل ما يقوي الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد، وأن يطبق بالاسم العباسي كل ما تطبقه العهاد، وهو تقليد جامع بمصر واليمن والمغرب والشام".
وقال أيضًا: "كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين سلام الله عليه".
ومن المعروف أن الرايات السود هي التي كان يرفعها العباسيون في أثناء حكمهم، فجاء في إحدى رسائل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي: "حتى أتى الله بأمره، وأيّدنا بنصره.. فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم".
ثم شرع صلاح الدين بعد أن يسر الله له الحكم على جمع الأمة على الدين الصحيح، فقال: "وأضحى الدين واحدًا بعدما كان أديانًا، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف، لم يخرّوا عليها صمًّا وعميانًا، والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة".
ولما وصلت الرايات السود من العراق، أمر صلاح الدين بأن تعلق في الديار المصرية؛ إعلانًا باجتماع الأمة، فجاء في كتاب أبي شامة المقدسي رحمه الله: "وكانت وصلت مع الرسل أعلام وبنود ورايات سود وأهب عباسية للخطباء في الديار المصرية، فسيرت إلى صلاح الدين، ففرقها على المساجد والجوامع والخطباء والقضاة والعلماء، والحمد لله على ما أنعم وأولى ووهب وأعطى".
ثم وضح صلاح الدين أن ما قام به ليس بجهد منه، ولم ينسب الأمر لنفسه، وإنما رد الأمر إلى الله -تعالى- تحقيقًا للتوحيد الخالص لله، فقال: ".. وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى"، وقال أيضًا: "والذي أجراه الله تعالى.."، وقال أيضًا: "وكل ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا".
خاتمة:
مما تقدم يتضح أن تحقيق التوحيد (الإخلاص)، ويُضاف إليه اتباع السنة المطهرة (المتابعة) هما الأصلان الأساسيان لإصلاح المجتمع، ثم إن أي عامل آخر من عوامل إصلاح المجتمع -سواء كان اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا- يجب أن يُبنى على هذين الأصلين، أي أن يكون الأساس هو: الإخلاص والمتابعة.
الكاتب: د. فهد بن ناصر الجديد
المصدر: موقع المختار الإسلامي